كلمة فيلسوف هي كلمة يونانيّة الأصل جاءت عن إدغام كلمتي ( فيلا : وتعني محبّ ) و( سوفا :
وتعني الحكمة ) .
فالفلسفة : هي محبّة الحكمة ، التي تأخذ بروح الإنسان عن طينه ، وترفعه من التخبّط والتحيّر على الأرض إلى التأمّل والتفكّر في السماء ، فتجلو حينها محاسن الأخلاق ، وترقى لعلوّها الرغباتُ والأهواء ، وتنشأ جماعةً من الناس يدنو لأجلهم كلكل السماء ، فتهديهم نور أقمارها وبياض ربابها وأمطارها .
والناس اليوم في موقفهم من الفلسفة فئتين :
الأولى : رافضة لمبدأ الفلسفة مطلقاً ، واعتبارها سور شائك يُحرّم الخوض فيه .
وهذه الفئة - باعتقادي - تمثّل الشريحة الأكبر من مجتمعاتنا ، وربّما يعود رفضها لمبادئ الفلسفة إلى عدّة أسبابٍ منها :
1- عدم إدراك الناس لمفهوم الفلسفة ، وحصر الفلاسفة في أهل علم الكلام الّذين كُفّروا بإجماع العلماء في التاريخ 1.
2- وقوع كتب فلسفيّة تتنافى مبادئها وعقيدة المسلم في يد الباحث ، ممّا يؤدّي إلى نفور الفطرة السليمة منها .
الفئة الثانية : شريحة تتقبّل بنهمٍ كلّ ما تقرأه من نتاج فلسفة الشرق والغرب ، ظهرت مؤخّراً في المجتمع الإسلامي ، كردّة فعلٍ طبيعيّة - وربّما تكون مبالغة أحياناً - للانفتاح الإعلامي والثقافي في القرنين الأخيرين .
أسفي بأنّ تأثّر الفئة الأخيرة بفلاسفة أوروبّا أكبر منه بفلاسفة الإسلام كحجّة الإسلام أبي حامد الغزالي وابن القيّم فيلسوف الروح والجسد ، وربّما يعزو هذا إلى تقصير الإعلام الإسلاميّ متمثّلاً في المكتبات الإسلاميّة والبرامج والمقالات من جهة ، وإلى نشاط أهل الهوى الّذين آمنوا - مطلقاً - بما قاله أرسطو وديكارت وهيغل من جهة أخرى ! .
.
.
وبما أنّ عقائد المجتمعات هي من تصوغها وتصنع أحكامها - على الرّغم من كلّ شيء وقول - فإنّ وضع الفلسفة في ميزان الإسلام هو أوّل ما ينبغي علينا فعله عند دراستنا لها كمبدأ علميِّ قائمٍ بذاته .
فهل يُحرّم الإسلام استخدام القدرات العقليّة في تفسير الظواهر الدينيّة والدنيويّة ؟!
يقول الفيلسوف الجزائريّ مالك بن نبيّ - رحمه الله - :
( .... من الجحود أن نقول مع الأب تيري R.P.Thery : حرّم النبيّ صراحةً أيّ استخدامٍ للعقل في المشكلة الدينيّة ، لأنّ وجود الله لا يمكن البرهنة عليه ، والاجتهاد أو انطلاق العقل ليس من التوجيهات الأساسية للقرآن )
ونحن إذا أردنا نفيَ ما ردّده الأب تيري ، فإنّ علينا العودة إلى سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لمعرفة كيف هي طرائق حواره ودعوته للأفراد والأمم ، وإلى آي القرآن الكريم لإدراك نهجه في شرح المسائل العقائديّة والدنيويّة :
1- الإسلام ، رسالة الله الخالدة ، لم يجبر أحداً من النّاس على اعتناقه قِصراً ، يقول الله جلّ وعلا في كتابه الكريم : ( لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن يؤمن بالله ورسوله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم ) البقرة 256.
فسّر الإمام السعديّ رحمه الله هذه الآية ، بقوله :
( يخبر تعالى أنّه لا إكراه في الدّين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه .... إلى أن قال : .... وأمّا هذا الدّين القويم والصراط المستقيم فقد تبيّنت أعلامه للعقول ، وظهرت طرقه ، وتبيّن أمره ، وعُرف الرشد من الغيّ ، فالمُوفّق إذا نظر أدنى نظرة إليه آثره واختاره ) .
وعلى هذا ، فإنّ الإسلام يترك للإنسان حريّة اختيار دينه من جهة ، ويحثّه على استغلال قدراته العقليّة في التوصّل إلى الدّين الحقّ من جهةٍ أخرى .
ويظهر هذا جليّاً في دستور الإسلام :
قال الله تعالى : ( يا أيّها النّاس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلاّ هو فأنّى تؤفكون ) فاطر 3 .
وقال جلّ شأنه : ( قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثمّ تتفكّروا ما بصاحبكم من جنّة إن هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) سبأ 46 .
وقال في موضعٍ آخر : ( وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه ذلك بأنّهم قومٌ لا يعلمون ) التّوبة 6 .
2- اخترتُ لكم نموذجين ممّا حدّث به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه ، لنعرف أيّ منهجٍ اتّبعه - بأبي هو وأمّي - في حثّ الرّعيل الأوّل على استغلال القدرة العقليّة في تحقيق الأمور الدّينية والدنيوية :
ففي الدّينية :
* سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاذ بن جبل حين وجّهه إلى اليمن :
- بما تقضي يا معاذ ؟
- بكتاب الله ..
- فإن لم تجد في كتاب الله ؟
- أقضي بسنّة رسوله ..
- فإن لم تجد في سنّة رسوله ؟
- أجتهد فيه ، لا آلو
- الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله .
وفي الدنيويّة :
* وُرد في صحيح مسلم جـ 4 تحت عنوان باب ( وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره صلّى الله عليه وسلّم من معايش الدّنيا على سبيل الرأي ) : عن موسى بن طلحة عن أبيه قال مررتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقومٍ على رؤوس النّخل فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ فقالوا : يلقّحونه يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ما أظنّ يغني شيئاً ، قال فأُخبروا بذلك فتركوه ، فأُخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك ، فقال : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإنّي إنّما ظننتُ ظنّّاً ، فلا تؤاخذوني بالظنّ ، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئاً فخذوا به فإنّي لن أكذب على الله عزّ وجلّ " . وعن عائشة وعن ثابتٍ وعن أنسٍ رضي الله عنهم أجمعين أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ بقومٍ يلقّحون فقال : لوم لم يفعلوا لصلح ، قال فخرج شيصاً [ وهو رديء التمر ] فمرّ بهم فقال : ما لنخلكم ، قالوا : قلت كذه وكذه ، قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم.
.
.
فاصلة :
إنّ الكثيرين ممّن يُتبعون أحاديثهم عن فلاسفة اليونان بـ ( الوثنيين ) سيغيّرون آرائهم إذا علموا بأنّ أنبادقليس الفيلسوف كان في زمن داوود عليه السّلام مضى إليه وتلقّى منه العلم ، واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة ، وفيثاغورس الفيلسوف والرياضيّ المشهور كان في زمان سليمان النبيّ عليه وعلى والده السلام وقد أخذ الحكمة من معدن النبوّة أيضاً 2 .
حدود الفلسفة :
أعتقد بأنّ الكثير منّا قد تساءل دوماً عن الحدّ الّذي يُسمح به لانطلاق العقل فلسفيّاً ، فالعقل كالنّفس من الجسد ، من الأسلم تسييره لا السير عليه ، ومن الأجدر تقييده لا تحريره مطلقاً .
جميعنا يدرك مفهوم : محدودية حواسّ الإنسان ، فالإنسان كائنٌ حيّ ، وقدراته تعجز عن رؤية وسماع أو حتّى إدراك الكثير من مظاهر الحياة ، وأحياناً يرى الإنسان ما لا وجود له في الحياة أصلاً ! .
الكائنات الأخرى ربّما رأت في الحياة ما لم نره نحن ، وربّما عجزت عن رؤية أشياء أخرى ، كما النّحل الّذي يعجز عن رؤية الّلون الأحمر مثلاً ! .
إذاً ، من يدرك الكون الحقيقيّ من هذا كلّه ؟
يقول د / مصطفى محمود :
( ما نراه يُنقل إلينا مشوّهاً وناقصاً ومبتوراً نتيجة رؤيتنا الكليلة ..
والنتيجة أنّ هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدّنيا التي كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها ..
ولا يعرفها إلاّ الله ! ) 3 .
ولا يعرفها إلاّ الله !
إذاً ، ما جاء إلينا من الله وجب علينا أن نتقبّله وإن رفضته حوّاسنا ، واستغلقته عقولنا .
الغيب الّذي أخبرنا به الله عزّ وجلّ في قرآنه ، أو على لسان نبيّه لا نراه ليس لأنّه غير موجودٍ ، ولكن لأنّ حواسّنا أضعف بكثيرٍ من أن تستوعبه .
فنسكتُ عمّا أمرنا الله بالسكوت عنه ، كالتحدّث عن كينونيّة صفات الإله ، أو الاعتراض على أحكامه وأوامره ونواهيه ، أو استبدال تشريعاته بتشريعاتٍ دنيويّة ما أنزل الله بها من سلطان .
ونحن نؤمن بالجنّة والنّار والملائكة والجنّ والحساب واليوم الآخر دون أن تدرك حواسّنا شيئاً من ذلك كلّه .
وهذا هو الإيمان حقّاً والإبتلاء حقّا ، فكيف يُستدلّ على مطلق التصديق بالإيمان بكينوناتٍ يراها ويدركها الإنسان أمامه ؟!
.
.
الله أعلم بما في صدور العالمين
وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها
مطلق العلم والإرادة والحكمة
من تبجّح الإنسان أن يعترض على أوامر الله وأحكامه وقرآنه ، لأنّ الإنسان أضعف وأقلّ من أن يدرك أسرار الكثير منها .
فكلّ ما جاءنا من الله هو السماء الّذي تتوقّف إليها عقولنا ، فإن وافق العقل ما علّمنا الله هوَ قبلناه ، وإن لم يكن رفضنا .
فالإسلام دينٌ لم يأمر أتباعه باستغلاق منافذ العقل وإنّما هو حدّها فقط بسماء القرآن وعلم الله المطلق .